
د. هدى مسلمانى ، معالجة نفسية ، لبنان
كنا شابات مفعمات بالنشاط ، والفرح ، نتواصل كل إسبوع في منزل.
واحدة منا، اثنتا عشرة صديقة ، نجتمع على فنجان قهوة وقطعة حلوة، تأخذنا بالوقت الأحاديث العامة والمواقف المضحكة.
عشر سنوات مرت ونحن على هذا الحال، لا خلافات، ولانميمة، بل صديقات.
صديقات، هل فعلا كنا صديقات؟
كلمة لطالما إعتقدت بأنها حقيقية، لغيت الكثير من حياتي من أجل صديقاتي،
كنّ ملاذن آمنا ولطيفا ويضفون على أوقاتي متعة كرائحة القهوة الغنية بالهال التي نحتسيها معا.
في ليلة صافية ، وهادئة ، يخرج من سراب مظلم من الهاتف الذي يسمى ذكيا،
برامج مليئة بالناس من كافة أنحاء العالم. تبدأ المجموعات بالتكوين،
وتبدأ حوارات المساء بين ببعضهن البعض، وتتفتح الزهرات الأنيقة وتتشعب اوراقها كثيرا،
وتزهر دون عطر خاص بها كما عهدتها،
خفتت على أحاديث الواتساب رائحة المودة التي كانت داخل الجلسات كما يسمونها ( جلسات الصالونات)،
وبشكل تدريجي أصبحت تختفي تلك الرائحة، حتى لم يبق الا القليل منها عبر التواصل.
دخل الى بستان صديقاتي أنواع جديدة من الزهور من مختلف البساتين ،
وقفت انظر إليهن أبحث عن صديقاتي، وعجزت أن أشمّ عطور المودة، والأوقات الغابرة.
ها هي الأيام تمر وحقيقة برودة التواصل تهز كياني ، إنني أخسر عمرا من الوفاء والتضحية لبقائي ضمن بستان حياتي الذي هو صديقاتي.
أصبحت الشبكة العنقودية تتغلغل سلسة وتتحكم بعقول حاملي الهاتف الذكي،
الهاتف الذي شبك عبر برامج التواصل الاجتماعي عقول البشر ولم يعد يريد حلها لتذهب بسلام او تعود لبساطة عيش أوقاتها بسلام.
فعلا وكأن العقول أصبحت هي شبكة متشابكة بأفكارها وسلوكها، بعقدة يصعب فكها.
انقسمت المجموعة الواحدة لمجموعات سرية، في كل مجموعة يوجد الأكثر إنسجاما.
وتشعبت المجموعات وظهرت أمام عيني حقيقة، أنا ماذا عشت وهم الصداقة؟
وجعلت من رفقة وقت لطيف، عنصرا أساسيًا في حياتي ، عنصر تغير مع تغير التكنولوجيا،
تحولت سلوكياته البسيطة إلى تكلف زائف، فبدل أن تبقى صديقاتي زهرات نضرات بوجودهن ، وهن الغلا كله وهن الهدية، أصبحن تتكلفن بالتعامل،
فدخلت الهدية الثمينة بسبب إعلانات الانترنت في قاموس علاقتنا، فلكل دعوة هدية، ولكل سلام هدية، أرهقتني الفكرة أكثر مما أرهقتني الهدية،
أصبحت أفكاري كدخان نار تحرقني، أبحث عن صديقاتي لا أجدهن،
إختفت البساطة، نضجت أوراقهن أكثر مما اعتدت عليهن.
لا أعرف أي بستان أدخل، حتى الأوراق لبست ألوانًا مختلفة، هن سعيدات، انهن يتمخطرن بأثوابهن الجديدة ومكانهن،
لكن أنا ما تهت.
خرجت من الحقل مضطربة عاطفيا، فقدت صديقاتي، لم أعد أراهن.
وبدأت أسترجع طريقة تعاملي معهن بشكل حساس، وحولت سؤالي حول علاقتهن بي، وليس فقط علاقتي
أنا بهن. وانهارت الأسئلة علي بالسهام الحادة.
انت بحثتي عنهن! انت دخلت عدة حقول لتجدهن، انت لم تتركهن.
فأين ذهبن هن عنك؟؟؟؟ لماذا لا يبحثن هن عنك؟؟؟ الست صديقتهن؟؟؟؟ براعم الصداقة تفتحت معهن، فلماذا لست ببستاهن؟؟؟
صدمة الحقيقة دفنتني بين صخور الفكرة ، اتعبتني لايام كي أكسرها وأصحى من موت حصل عندما ولد الوهم،
واكتشفت حينها ( عندما يولد الوهم تموت الحقيقة) يمكن لأننا اندثرنا بشخصية الاخرين ، ممكن لان الفراغ الروحي الموجودي
لدى الانسان يختلف حجمه من شخص لاخر، ولملئ هذا الفراغ نتعلق بالاشخاص ، معتبرين انهن جوهر الأوقات، وعطرها.
حقيقة نعيشها مع كل امر نحبه في مراهقتنا، ونتمسك به بريعان شبابنا، ويموت مع ولادة الوهم فيكون بمثابة شمس جديدة اشرقت على الحقول لتظهر الوان الزهور في بساتينها.
وخرجت من كل البساتين ، أبحث عن ارض خاصة لي، لاسقي اوراقي بماء صافية من نبع داخلي الغني بالمواهب والمهارات،
وانطلق ألعب بين أشجار عمري ، تمدني بالنشاط، أمدها بالحب فتنبت ثمارها اسمى أنواع الصفات الإنسانية.
نحن لا نخسر في الحياة أحدا طالما كسبنا انفسنا.